جعل الإسلام من تحمل المسئولية أساسًا لبناء المجتمع الراشد، وفي سياق ذلك لم يفرق بين المسئولية الخاصة والمسئولية العامة من حيث الإلزام بالقيام بمتطلبات هذا التحمل، وكذلك لم يفرق بين المسئولية الفردية والمسئولية الجماعية، فكل فرد ملزم بالقيام بما وكل إليه على الوجه المرضي الذي يقبله العقل والشرع.
والمتأمل في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» متفق عليه. يجد الإشارة إلى كل من المسئولية الخاصة والمسئولية العامة، ففي الحديث أن «الإِمَام الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وهذا مثال للمسئولية العامة، وفيه أن «الرَّجُل رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَة رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْد الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ» وهذه أمثلة متنوعة للمسئولية الخاصة.
ولا يقتصر أمر المسئولية على من يتولى شئون غيره، وإنما يدخل في هذا مسئولية الإنسان تجاه نفسه ومجتمعه ووطنه ودينه، حتى قال العلماء: إن من لا زوج له ولا خادم ولا ولد.. إلخ فإنه يَصْدُقُ عليه أنه راع على جوارحه، بحيث يأتي المأمورات ويجتنب المنهيات فعلًا ونطقًا واعتقادًا؛ فجوارحه وقواه وحواسه رعيته، وهذا من أسرار تعبير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ العموم «كُلُّكُمْ».
ووصفُ صاحب المسئولية بالراعي المرادُ منه: أن كل من كان تحت مسئوليته شيء ينبغي أن يكون راعيًا بتحقيق العدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته؛ لأن الراعي في الحقيقة هو الذي يتحمل مسئولية القيام بما تحت نظرِه على الوجه السديد أمانةً والتزامًا.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تولية الأمر لمن ليس أهله، وجعل ذلك من تضييع الأمانة المؤذِن بقيام الساعة؛ ففي الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
ولا يخفى أن غير الكفء ليس أهلًا لتحمل المسئولية، فلا ينتظر منه إلا تضييع الأمانة التي تحملها بغير استعداد ولا تأهيل، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» "المعجم الأوسط" للطبراني، و"مسند أبي يعلى الموصلي".
وكذلك لم يفرق الإسلام بين المسئولية الفردية والمسئولية الجماعية من حيث وجوب القيام بأعبائها، حتى قسم العلماء والفقهاء الأمور الواجبة إلى أمور واجبةٍ على الأفراد بحيث يتحمل مسئوليتها الفرد بعينه، ولا يغني عنه فيها غيره، ويحاسب عليها وحده ثوابًا وعقابًا، والأمور الأخرى هي الواجبة على مجموع الأفراد بحيث يتحمل مسئوليتها المجتمع بأسره، وهذا ما يُسمَّى بالواجب الكفائي، وهو يتضمن معنى المسئولية الجماعية، أي: أنه إذا فرط جميع المكلفين من أفراد المجتمع في هذه المسئولية كانوا جميعًا آثمين، وإذا نهضوا وحدَّدوا من يقوم بأعبائها بحيث يسدون الحاجة ويقومون بالفعل المطلوب، أو وجد من يقوم بذلك تبرعًا وهو كفء له سقط الإثم عن الجميع.
ومن أمثلة هذه المسئولية الجماعية التي تنشأ عن فروض الكفاية ضرورة أن يكون في المجتمع الأطباء والمهندسون وأرباب الصناعات والحرف والمهن والتجارات والقائمون على الولايات العامة والخاصة، وغير ذلك من الأمور الدنيوية التي يتوقف عليها صلاح المعاش، فإن هذه الأمور كلها فروض كفايات يجب أن ينهض في المجتمع من يقوم بها سدًّا لحاجات أفراد المجتمع، كما أن تعلم العلوم المختلفة العقلية والنقلية والتجريبية وإتقان الصناعات فرض كفاية لا يسلم المجتمع من الإثم إلا بوجود من يتصدر لها.
المراجع:
- "الحكم الشرعي عند الأصوليين" لفضيلة الأستاذ الدكتور/ علي جمعة.
- "إحياء علوم الدين" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي.