ما حكم تعجيل الدائن دينه المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه؟
لا مانع شرعًا من أن يتعجل الدائن دَيْنَه ويَضَعَ عن المدين بعضَهُ؛ لما في ذلك من الرفق بالمدين والتخفيف عنه، ولا يعد هذا من الربا، بل هو عكس الربا.
المحتويات
مما لا شك فيه أن الشريعة لا تمنع عقدًا فيه مصلحة للعباد إذا خلا مما يبطله على وفق القواعد والضوابط الشرعية؛ كالغرر الفاحش، والجهالة، والربا.. إلخ؛ لأنها جاءت لتحقيق مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم؛ قال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (6/ 446، ط. دار ابن عفان): [الشريعة وُضعت لمصالح العباد ودرء المفاسد عنهم] اهـ.
تعجيل الدَّيْن المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه؛ صورتُه: أنْ يتنازل الدائن عن جزءٍ من الدين المؤجل في مقابل دفع الجزء الباقي في الحال.
وقد اختَلف الفقهاء في ذلك: فذهب فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلى المنع، وهو المَشهور عن الإمام أحمَد؛ لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالًّا، وهو ربا، كما في الدين الحال لو زاده في المال ليؤجله.
قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (13/ 126، ط. دار المعرفة): [وإذا كان لرجلٍ على رجلٍ دينٌ إلى أجلٍ وهو من ثمنِ مبيعٍ فحط عنه شيئًا على أن يعجل له ما بقي فلا خير فيه، ولكن يرد ما أخذ والمال كله إلى أَجَلِهِ، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يُجَوِّز ذلك، ولسنا نأخذ بقوله؛ لأن هذا مقابلة الأجل بالدراهم، ومقابلةُ الأجل بالدراهم ربا، ألَا ترى أن في الدَّين الحالّ لو زاده في المال ليؤجله لم يجز، فكذلك في المؤجل إذا حط عنه البعض ليعجل له ما بقي] اهـ.
وقال العلامة الكمال ابن الهمام الحنفي في "فتح القدير" (8/ 426، ط. دار الفكر): [(ولو كانت له ألفٌ مؤجلةٌ فصالحه على خمسمائةٍ حالّةٍ لم يجز) لأن المعجل خير من المؤجل، وهو غير مستحق بالعقد؛ فيكون بإزاء ما حطه عنه، وذلك اعتياضٌ عن الأجل وهو حرام] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "الكافي في فقه أهل المدينة" (2/ 669، ط. مكتبة الرياض): [قال مالك رحمه الله: إنَّ ضَعْ وَتَعَجَّلْ من الربا. مثال ذلك: رجلٌ له على آخر عشرون دينارًا إلى سنةٍ من بيعٍ أو سلف، فلما مر نصف السنة احتاج رب الدين، فسأل غريمه أن يقضيه، فأبى إلا إلى حلول الأجل، فقال له رب الدين: أعطني الآن عشرةً وأحط عنك العشرة الباقية. فهذا "ضع وتعجل"؛ وهو عند مالك وأكثر أهل العلم ربا] اهـ.
وقال الإمام الخطيب الشربيني الشافعي في "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" (3/ 165، ط. دار الكتب العلمية): [(ولو عكس) بأن صالح من عشرة مؤجلة على خمسة حالَّة (لَغَا) الصلح؛ لأن صفة الحلول لا يصح إلحاقها، والخمسة الأخرى إنما تركها في مقابلة ذلك، فإن لم يحصل الحلول لا يصح الترك، والصحة والتكسير كالحلول والتأجيل] اهـ.
وقال العلامة ابن مفلح الحنبلي في "المبدع في شرح المقنع" (4/ 206، ط. دار الكتب العلمية): [(ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالًّا لم يصح) نقله الجماعة؛ لأنه يبذل القدر الذي يحطه عوضًا عن تعجيل ما في ذمته ومع الحلول، والتأجيل لا يجوز، كما لو أعطاه عشرة حالَّة بعشرين مؤجلة، وفي "الإرشاد"، و"المبهج" رواية بالصحة، واختارها الشيخ تقي الدين؛ لبراءة الذمة هنا، وكدين الكتابة؛ جزم به الأصحاب، ونقله ابن منصور] اهـ.
وقال العلامة المرداوي الحنبلي في "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" (5/ 236، ط. دار إحياء التراث): بقوله: [(ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالًّا لم يصح) هذا المذهب، نقله الجماعة عن الإمام أحمد، وعليه جماهير الأصحاب] اهـ.
وذهب جماعةٌ إلى جَواز الوَضع والتَّعجُّل؛ وهو رِوايَة عن أحمَد، وبه قال ابن تَيميَة وابن القَيِّم، ونسبه ابن رشد المالكي لابن عباسٍ وزُفر من الحَنَفيّة؛ وعللوا ذلك بأن فيه مصلحةً للطرفين؛ فمصلحة الدائن التعجيل، ومصلحة المدين الإسقاط، والشريعة لا تمنع عقدًا فيه مصلحة للطرفين إذا انتفى عنه الغرر والجهالة، كما أنَّ الربا في هذا العقد بعيدٌ جدًّا؛ لأنه لم يطرأ على بال أحد المتعاقدين حين العقد أن الرد سوف يكون أنقص معجلًا.
قال الشيخ ابن تَيميَة في "الفتاوى الكبرى" (5/ 396، ط. دار الكتب العلمية): [ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالًّا، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولًا للشافعي] اهـ.
وقال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (3/ 278، ط. دار الكتب العلمية): [وإن كان الدين مؤجلًا.. وتارة يصالحه ببعضه حالًّا مع الإقرار والإنكار، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضًا: أحدها: أنه لا يصح مطلقًا، وهو المشهور عن مالك؛ لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالًّا، وهو عين الربا، وفي الإنكار- المدعي يقول: هذه المائة الحالَّة عوض عن مائتين مؤجلة، وذلك لا يجوز، وهذا قول ابن عمر رضي الله عنهما. والقول الثاني: أنه يجوز، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى وغيره، واختاره شيخنا؛ لأن هذا عكس الربا؛ فإن الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل، فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل، فانتفع به كل واحد منهما، ولم يكن هنا ربا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفًا، فإن الربا الزيادة وهي منتفية ههنا، والذين حرموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: إما أن تربي وإما أن تقضي. وبين قوله: عجل لي وأهب لك مائة. فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح] اهـ.
قال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" (3/ 162، ط. دار الحديث): [أما "ضع وتعجل": فأجازه ابن عباس من الصحابة وزفر من فقهاء الأمصار، ومنعه جماعة منهم ابن عمر من الصحابة، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، وجماعة من فقهاء الأمصار، واختلف قول الشافعي في ذلك.. وعمدة من لم يجز ضع وتعجل: أنه شبيه بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه بها أنه جعل للزمان مقدارًا من الثمن بدلًا منه في الموضعين جميعًا، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمنًا، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمنًا] اهـ.
استدلوا على ذلك بما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَد دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: وَهْوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى «يَا كَعْبُ». قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا». وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أي الشَّطْرَ. قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «قُمْ فَاقْضِهِ».
قال العلامة ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 106، ط. مكتبة الرشد): [القضاء بالصالح إذا رآه السلطان صلاحًا ولم يشاور الموضوع عنه إن كان يقبل الوضيعة أم لا. وفيه: الحكم عليه بالصالح إذا كان فيه رشده وصلاح له] اهـ.
وبما رواه الإمام مالك في "الموطأ" عَنِ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: لَمَّا أَمَرَنَا بِإِخْرَاجِ بَنِي النَّضِيرِ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّكَ أَمَرْتَ بِإِخْرَاجِنَا، وَلَنَا عَلَى النَّاسِ دُيُونٌ لَمْ تَحِلَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «ضَعُوا وَتَعَجَّلُوا».
بناءً على ذلك: فلا مانع أن يتعجل الدائن دَيْنَه ويَضَعَ عن المدين بعضَهُ؛ لأن فيه مصلحة للطرفين، والشريعةُ لا تمنع عقدًا فيه مصلحة للطرفين إذا انتفى عنه الغرر والضرر والجهالة والربا.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ما حكم تعجيل الدائن دينه المؤجل في مقابل التنازل عن بعضه؟
ما حكم إلزام المدين برد الدين ذهبا كما أخذه ذهبا؟ فقد طلب مني صديق مبلغًا من المال على سبيل السلف، وحيث إنني أعمل بدولة عربية ومدخراتي أغلبها من العملات الأجنبية والمشغولات الذهبية فقمت بإعطائه بعض هذه المشغولات الذهبية والعملات، وطلب مهلةً لردها واشترطتُ عليه أن يردَّها لي كما أخذها بنفس صورتها، وعندما حان وقتُ ردِّ هذه السُّلفة كان قد تغير سعرُ الذهبِ وسعرُ العملاتِ إلى سعرٍ أعلى، فهل هنا قد ظلمته بإلزامه برد هذه الأشياء بمثل ما أخذها؟ أم أكون قد أخذت حقًّا ليس من حقي؟
ما حكم حرق البضاعة من أجل الحصول على المال؟ مثل شراء سلعة بالتقسيط وبيعها في نفس الوقت للحصول على سيولة مالية؟ حيث ظهر في هذه الأيام ما يسمّونه بـ"حرق البضائع" وهي طريقة بيع يلجأ إليها البعض للحصول على سيولة مالية، وصورته: أن يشتري من التاجر سلعة معينة بالتقسيط، ثم يبيعها لذات التاجر بسعر حالٍّ معجل، لكنه أقل؛ رغبة في توفير سيولة نقدية لقضاء بعض الحوائج الحياتية أو التجارية، فهل هذا جائز؟
وهل هذه المعاملة هي العِينَة التي ورد النهي عنها في السنة المشرفة؟
وهل يختلف الأمر لو كان المشتري للسلعة ثانيًا ليس هو بائعها الأول؟
ما حكم حجز الذهب بدفع بعض قيمته؟ فقد ذهبتُ مع زوجتي إلى تاجر المشغولات الذهبية وقد أعجبها أحد المنتجات المعروضة، وقد أخبرنا التاجر أن ما اخترناه قد بِيع بالفعل، وأنه سَيجلب مثلَه في غضون ثلاثة أيامٍ، لكن لا بد من دفع جزءٍ مِن الثمن، فتم الاتفاق على شراء المنتج مع تحديد جميع الأمور المتعلقة بذلك من صفة المنتج ووزنه وثمنه وموعد تسليمه وتمَّ تحرير فاتورة بيع بذلك، على أن نستلمه بعد ثلاثة أيام ونسدِّد عند ذاك باقي الثمن، فهل تجوز هذه المعاملة شرعًا؟
ما حكم بيع الرجل منزله لزوجته نظير دين لها عليه؟ حيث يقول السائل إن له منزلًا مكونًا من محل واحد مساحته 32 ذراعًا وفوقه محل بسيط والكل بالطوب اللبن، وسقفه بالبوص والخشب، ويقدر ثمنه بمبلغ 200 جنيه -الآن- وأنه يريد بيع هذا المنزل لزوجته الثانية نظير الحلي -الذهب- الذي أخذه منها وباعه بمبلغ 200 جنيه، وأنفق ثمنه على مرضه وإجراء عملية جراحية له، وأصبح هذا المبلغ دينًا عليه وأنه لا يقدر على رد ثمن الذهب. ويسأل: هل يمكن أن يبيع المنزل لزوجته نظير هذا المبلغ، أم لا؟
سائل يقول: نرجو منكم بيان المراد من قول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ»؟